تركيا وسوريا- ذروة النفوذ الإقليمي بين الفرص والمخاطر

أضحى من المسلّمات أن التحولات العميقة التي شهدتها سوريا قد ألقت بتبعاتها وتأثيراتها على المنطقة بأسرها، وأن أنقرة كانت في طليعة القوى الخارجية التي سعت للاستفادة من هذا التغيير في دمشق. تتجلى فوائد تركيا في جوانب عديدة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو عسكرية، إلا أن تعزيز نفوذها الإقليمي وترسيخ مكانتها الإستراتيجية في المنطقة يمثل المكسب الأبرز والأكثر أهمية.
تركيا تتغير
لقد جاءت المتغيرات الحكومية في سوريا في فترة بالغة الأهمية والملائمة لتركيا، مما ضاعف من مكاسبها وطموحاتها. ويعزى ذلك إلى عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، حيث تزامنت هذه التطورات مع تحولات عالمية وإقليمية متسارعة، بالإضافة إلى التحول الملحوظ في النهج التركي تجاه سياستها الخارجية.
فمنذ تأسيس الجمهورية التركية، اعتمدت أنقرة في سياستها الخارجية على مبدأ الانكفاء على الذات والتركيز على الشؤون الداخلية، وهو ما يمكن تلخيصه في مقولة مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك الشهيرة: "سلام في الوطن، سلام في العالم". ولهذا السبب، حرصت تركيا على مدى عقود طويلة على تجنب التورط في نزاعات خارجية، خشية الانجرار إلى صراعات قد تستنزف قدراتها ومواردها. ويُعد التدخل العسكري لحماية القبارصة الأتراك في عام 1974، والذي تم تحت مسمى "عملية السلام"، استثناءً يؤكد هذه القاعدة، حيث أن تركيا لا تنظر إلى قضية قبرص كمسألة "خارجية"، بل تعتبرها جزءًا من "الوطن الصغير" أو "الوطن الابن".
ومن اللافت للنظر أن التداعيات المترتبة على الثورة السورية في السنوات اللاحقة كانت من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت تركيا إلى تغيير فلسفتها في السياسة الخارجية، والتحول من الاعتماد بشكل حصري على القوة الناعمة إلى استخدام بعض أدوات القوة الخشنة. فكانت عملية "درع الفرات" في عام 2016 هي العملية العسكرية الأولى التي دشنت سردية "التدخل الحمائي" أو الدفاعي، بدلًا من سردية "تجنب الغرق في المستنقع السوري". ثم تبع ذلك سلسلة من العمليات العسكرية، بهدف تقويض قدرة التنظيمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني على تشكيل كيان سياسي، والتي تعتبرها تركيا "ممرًا إرهابيًا" على حدودها.
وقد أرست النظرية العسكرية والأمنية الجديدة مبدأ الحرب الاستباقية و"تجفيف منابع الإرهاب في مصادره"، كما أفضت إلى تنفيذ عمليات عسكرية متقدمة في عمق الأراضي العراقية ضد معاقل حزب العمال الكردستاني، وإنشاء قواعد عسكرية في كل من العراق وقطر والصومال، والتدخل في نزاعات إقليمية كما هو الحال في ليبيا وجنوب القوقاز، بالإضافة إلى تطوير الصناعات الدفاعية، وخاصة قطاع الطائرات المسيّرة، بحيث أصبحت الصناعة المحلية الركيزة الأساسية في تسليح الجيش التركي، مما أدخل تركيا إلى نادي الدول المصدرة للأسلحة.
تطورات إقليمية ودولية
وقد ساهمت هذه التطورات في تعزيز الثقل الجيوسياسي لتركيا في المنطقة، إلا أن الاستفادة من هذا الثقل سياسيًا وتحويله إلى نفوذ بقي محدودًا، وذلك بسبب تدهور علاقات أنقرة مع عدد من القوى الإقليمية. وقد كان ذلك من بين الأسباب التي أدت إلى تبني سياسة خارجية أكثر هدوءًا، والعمل على تحسين العلاقات مع الأطراف المذكورة ابتداءً من عام 2021، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر.
كما أن توتر العلاقات بين أنقرة وعدد من القوى الغربية، ونزوعها نحو الاستقلال النسبي في سياستها الخارجية، على الرغم من عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وملف طلب عضوية الاتحاد الأوروبي، قد عرّضها لانتقادات غربية، ووصل الأمر ببعض الأصوات المتطرفة إلى المطالبة بإخراجها من حلف الناتو.
وفي الملف السوري، الذي يُعد أحد أهم ساحات التنافس الجيوسياسي الإقليمي، بقيت أنقرة في موقف دفاعي بعد هدوء الأوضاع الميدانية، حيث تم تدريجيًا تصفية مناطق خفض التصعيد من أربع مناطق إلى منطقة واحدة فقط، بل وقامت تركيا نفسها بتفكيك بعض نقاط مراقبتها وفقًا لاتفاق سوتشي، بسبب حصار النظام لها.
لقد ظهر متغيران هامان غيّرا هذه المعادلات بدرجة كبيرة. أولهما الحرب الروسية – الأوكرانية التي أكدت أهمية تركيا بالنسبة للغرب، فهي دولة جارة لهما من جهة البحر، وقادرة على التواصل مع كلتيهما، فضلًا عن سيطرتها على المضائق. كما أن الحرب أعادت تعريف التهديدات التي تواجه أوروبا، وأبرزت دور تركيا في مواجهة هذه التهديدات، وهو ما ذكره أكثر من مسؤول غربي صراحة، كما ورد على لسان رئيس الوزراء اليوناني ميتسوتاكيس خلال لقائه بأردوغان.
ثم جاءت معركة "طوفان الأقصى" التي قلبت المعادلات في المنطقة رأسًا على عقب، بدءًا بتقويضها للعقيدة الأمنية "الإسرائيلية" بمختلف ركائزها، مرورًا بتمددها في المنطقة، وخصوصًا توسيع "إسرائيل" لمناطق احتلالها في سوريا وتهديدها بمهاجمة إيران، وهو ما عدّته أنقرة تهديدًا للاستقرار الإقليمي، ولها بشكل مباشر، وليس انتهاءً بتغير توازن القوى الإقليمي.
سوريا: فرص ومخاطر
في سياق المتغيرات سالفة الذكر، وفي ظل الانسداد الحاصل في الملف السوري، والذي دفع أردوغان إلى عرض تطبيع العلاقات مع الأسد، جاءت عملية "ردع العدوان" التي أسقطت النظام وأدت إلى انقلاب كبير في توازنات الملف السوري والمنطقة، وخصوصًا فيما يتعلق بالثلاثي التركي – الروسي – الإيراني.
فقد أتى نظام صديق لتركيا على عكس النظام السابق، وتعلّق أنقرة آمالًا كبيرة على التعاون الاقتصادي والتجاري وفي ملف إعادة الإعمار مع دمشق، وعلى دور مهم تلعبه في إعادة هيكلة المؤسسات السورية، ولا سيما العسكرية والأمنية، وتستشرف فرصة تاريخية لإنهاء ملف حزب العمال الكردستاني داخليًا وفي سوريا، وباتت الطرف الأكثر قربًا في المواقف والتوجهات مع سوريا الجديدة وبمثابة المظلة الإقليمية لها.
في المقابل، انحسرت روسيا في سوريا نحو قواعدها العسكرية بعد أن كانت صاحبة النفوذ الأكبر فيها، ولا سيما في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا، وتثار علامات استفهام حول مستقبل هذه القواعد، والتي تتجاوز أهميتها الجغرافيا السورية، باعتبارها بوابة للوجود الروسي في ليبيا ثم عمق القارة الأفريقية، ما يعني أنها مفتاح مهم للنفوذ الروسي في المنطقة والعالم.
أما إيران، فقد خرجت بشكل شبه كامل من الملف السوري، وتواجه سياسة دولية – إقليمية تهدف إلى محاصرتها وتقليم أظفارها في الإقليم، متمثلة بسياسة الضغط الأقصى التي يبدو أن ترامب سيعود لها، وتهديدات نتنياهو المستمرة بمهاجمة مشروعها النووي لـ "استكمال المهمة"، فضلًا عن الضغوط على حلفائها وشركائها في كل من لبنان والعراق.
يعني ذلك تفوق يد أنقرة على كل من موسكو وطهران (وغيرهما) في الملف السوري، وهو أمر سيكون له تأثيره وتداعياته على عدد من القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك لهذه الدول، وفي مقدمتها ليبيا والقوقاز وآسيا الوسطى والبحر الأسود والبلقان وربما العراق.
كما أن احتمال ترسيم الحدود البحرية بين سوريا وتركيا يقوي أوراق الأخيرة في مواجهة التحالف الذي تقوده غريمتها اليونان بخصوص ثروات شرق المتوسط، ولا سيما مع الاتفاق مع ليبيا في 2019 وتحسن العلاقات مع مصر مؤخرًا.
وأخيرًا، فإن كل ما سبق يعزز أوراق القوة التركية في العلاقات مع إدارة ترامب، وخصوصًا فيما يرتبط بالوجود الأميركي العسكري في سوريا ودعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهو ما رشحت بشأنه تصريحات تشير إلى عودة ترامب لفكرة سحب قوات بلاده أو على الأقل تخفيفها، وهو عنصر قوة كبير جدًا لتركيا التي تضع ملف قسد في رأس أولوياتها.
يعني كل ما سبق أن أنقرة اليوم، ومع الزلزال السوري الأخير، في أوج نفوذها الإقليمي وموقعها في التنافس الجيوسياسي مع مختلف اللاعبين في المنطقة، وأنها أمام فرصة تاريخية لتأسيس أمر واقع يبنى عليه معطيات تستمر لعقود قادمة، سواء كان ذلك في سوريا عمومًا أو ما يرتبط بملف حزب العمال الكردستاني على وجه الخصوص.
لكن هذا الطريق ليس مفروشًا بالورود، بل تعترضه تحديات كبيرة ومخاطر ليست بالسهلة. فعلى الرغم من أن أنقرة قدمت رسائل طمأنة ضمنية لمختلف الأطراف بعدم التفرد في سوريا، وهو ما أكده وزير خارجيتها هاكان فيدان في ميونخ بشكل صريح، فإن توجس بعض القوى الإقليمية منها ليس خافيًا.
بعض التصريحات الرسمية وغير الرسمية في كل من موسكو وطهران في أول أيام عملية "ردع العدوان" تضمنت اتهامات بـ "الخداع والخيانة"، وشخص مثل ألكسندر دوغين هدد أردوغان بـ "دفع ثمن" ما حصل لروسيا في سوريا.
كما أن ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ليست له نهاية واحدة محتملة فقط، على الرغم من تعزز أوراق تركيا وتوافق القيادة السورية الجديدة معها في توحيد الأراضي والمؤسسات السورية، ذلك أن دمشق لا تبدو في عجلة من أمرها لإنهاء هذا الملف، وترامب غير مضمون المواقف والتوجهات، ما يترك الملف معلقًا في المرحلة الحالية على أهميته وحساسيته بالنسبة لأنقرة.
ويبرز الاحتلال "الإسرائيلي" كمهدد كبير لتركيا وسوريا معًا، إذ يحرض ضد قيادة الأخيرة، ويرجّح سيناريوهات التقسيم، ويتواصل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وغيرها من "حلفائه الطبيعيين" كما يدعي، بعد أن قوّض الكثير من إمكانات الدولة السورية ووسع احتلاله لأراضيها، ما جعله على حدود تركيا عمليًا ومهددًا مباشرًا لها.
يضاف إلى ذلك تقرير لجنة "ناجل" التي أوصت بالاستعداد لإمكانية المواجهة العسكرية مع تركيا بعد سنوات، فضلًا عن أن موقف "إسرائيل" قد يكون مدخلًا لتغيير الموقف الأميركي من أنقرة.
وختامًا، فإن المكاسب الكثيرة والكبيرة لتركيا رهن باستقرار الأوضاع في سوريا ونجاحها في اجتياز المرحلة الانتقالية، بينما قد يرتد أي تعثر أو فشل أو فوضى أو تدخل خارجي على تركيا بشكل سلبي، بعد أن اندفعت بشكل كلي خلف الحالة الجديدة في سوريا. ولذلك كان خطاب تركيا وممارستها وتوجهاتها هادئة وحذرة وإيجابية تجاه مختلف الأطراف، في سعي لإنجاح المسار من جهة، وتقليل تداعيات أي تعثر فيه من جهة أخرى.
